في الأول من أيلول 1920 وقف الجنرال هنري غورو في بيروت وأعلن بيده المبتورة، قطع قسم من الأرض السورية وإلحاقها بجبل لبنان. نفّذ الرجل عام 1920 ما خطّط له العسكريون الفرنسيون عام 1860 وذلك عندما تدخّلوا في الحرب الأهلية بذريعة «إعادة الهدوء». حينذاك أنجز القسم الجغرافي في الجيش الفرنسي خريطتين لدولة جديدة يريدون إقامتها مستقبلاً.الخريطة الأولى أُنجزت عام 1860 بعنوان «خريطة توضح التنظيم الحالي للحكومة المسيحية المقترحة التي سيتم تشكيلها في لبنان». هذه الخريطة تمتد من عكار شمالاً حتى الحولة جنوباً، إضافة إلى سهل البقاع وبلاد حاصبيا وبشارة (جبل عامل).
يتجلّى في عنوان الخريطة العقل العنصري الفرنسي الذي ينوي إقامة «حكومة مسيحية». لذلك ألحقوا بالجبل أراضيَ خصبة رغم معارضة لبنانيين رفضوا إلحاق مناطق «إسلامية» بالجبل «النقي» بمفهومهم. أخمد الفرنسيون المعارضة وأفهموا المعارضين أن لا حياة للجبل بدون الأقضية الأربعة، فانصاعوا للأمر، لكنّ بعض رموزهم لم يتخلّوا عن إيمانهم بنقاء «لبنان المسيحي».
أما الخريطة الثانية، فهي لا تختلف عن الأولى إلا لكونها لا تستخدم عبارة «حكومة مسيحية». وقد نُشرت عام 1862 وحملت العنوان التالي «خريطة لبنان، بعد استطلاع اللواء الطوبوغرافي التابع لقوة التدخل للجيش الفرنسي في سورية في 1860-1861، تمّ وضعها لدى المدير العام الجنرال بلونديل تحت إشراف سعادة الوزير الماريشال الكونت راندون 1862».
مضمون الخريطتين واحد، وهو إقامة دولة مسيحية. غورو قام بتنفيذ هذا المخطط، مع تغيير أساسي طرأ على القسم الجنوبي من لبنان الكبير، وذلك كان بعد مباحثات ومفاوضات وتدخّلات من الطرفين البريطاني والصهيوني. فكما كان الفرنسيون يقنعون المعترضين بضرورة ضم الأراضي الخصبة إلى الأقضية الأربعة، بحجة أنه لا حياة للجبل بلا موارد هذه الأقضية. وهو أمر عمل لأجله الأب لامانس اليسوعي، كذلك حصل الأمر نفسه في فلسطين، حيث صارع الإنكليز لضمّ أراضي الحولة والجليل الأعلى كما حاولوا الاستيلاء على منابع المياه ففشلوا. كان كل ذلك خدمة لأهداف المشروع الصهيوني، علماً أن الوكالة اليهودية العالمية، تقف خلف مساعي الإنكليز.
كل هذا المخطط الطائفي الاستيلائي، هو أساس الانهيار الداخلي والصراع الوجودي مع المشروع الصهيوني الذي نشهد فصوله اليوم في لبنان المعاصر. لأن هذه الدولة بُنيت في الأساس من منطلق ديني، ثم ما لبثت أن انهارت مع تطور الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية، وقد فشلت كل محاولات الإصلاح الشكلية. كان الوليد الجديد الذي أنجبه الفرنسيون يحمل في جيناته مرضاً لا بد من أن يقضي عليه عاجلاً أم آجلاً.
كان النظام لا يرحم من يهدّده، فقط القتلة المدعومون من قيادات طوائفهم ومن سفارات الخارج كانوا المحظيين. كانت السفارات ولا تزال هي التي تختار من يحكم. نفوذها مماثل لنفوذ القناصل في القرن التاسع عشر. والأمثلة عديدة أمامنا، إذ من المسلّمات عند كل العهود أنه ممنوع على الجيش التسلح، وبالتالي ممنوع إطلاق رصاصة على العدو الصهيوني. كل مفاصل السياسة الداخلية مسيطر عليها.
في الوقائع: ماذا جرى على الدولة ومن دخلها؟
هناك من قتل ضباطاً في الجيش، ومواطنين «لا يشبهونه»، ونهب، وفجّر كنائس، وتدرّب على أيدي ضباط العدو، أخرجوه من السجن وتمّ نسيان الضحايا. وهناك أيضاً من وصل إلى رئاسة الجمهورية بدعم الدبابات الإسرائيلية والأميركيين حاملاً معه رشاش عوزي إسرائيلياً أهداه إياه شارون، الأمر طبيعي، فهو من طينة «لبنان الرسالة» و«الصيغة الفريدة». حقاً إنها صيغة فريدة!
ليس من الضروري التذكير بكل الجرائم والمذابح. الناس لا يزالون يتذكرون أن في لبنان نوعاً من «البشر» لا يزالون يعيشون في مرحلة «الحروب الصليبية». هم يقولون عن أنفسهم إنهم في حرب مع الإسلام منذ 1400 سنة. لذلك عندما أصبحوا أقلية، نعم أقلية عددياً، باتوا يرفضون رفضاً قاطعاً إجراء أي إحصاء دقيق حول عدد اللبنانيين، وعلى أساس استعادة «أمجاد» الماضي البائد، وجدوا حلاً، وهم بما أنهم يرفضون العيش مع من «لا يشبههم» هدّدوا بالتقسيم.
مجدّداً، فلنعدْ بالذاكرة قليلاً إلى مرحلة حرب لبنان. كانت البلاد منقسمة، فاستولوا على معظم الجبل، ماذا كانت نتيجة التقسيم والأمر الواقع؟ قتلوا كل من خالفهم الرأي ونحر بعضُهم بعضاً، نهر من الدم من إهدن، إلى الكورة، إلى «إنجازاتهم» في حاجز جسر المدفون حيث اختفى المسلمون، فضلاً عن سلسلة المجازر من ضبيه إلى الصفرا إلى عينطورة… حيث تواجدت سيطرتهم العسكرية كان التهجير والقتل. وهل يُنسى تهجير أهالي شرق صيدا مثلاً؟
مشروع التقسيم أنتج «النقاء» الذي يحلمون به، وكانت مجزرة تل الزعتر. ثم بعد ضمّ كل بيروت إلى كيانهم التقسيمي كانت مجازر مخيمَيْ صبرا وشاتيلا. لم يقتصر القتل على النازحين الفلسطينيين، بل اختلطت الدماء وقتلت أجهزتهم الأمنية آلاف اللبنانيين الذين لا يزال مصيرهم مجهولاً حتى اليوم.
هذا بعض نتائج سياسة أحياء المتصرفية، لأنهم لا يستطيعون العيش مع الآخرين الذين «لا يشبهونهم». نعم شعارهم «لا يشبهوننا» صحيح بالتجربة. عندما حُرّر الجنوب عام 2000 لم يُقتل خائن واحد ممن كانوا يقاتلون جنباً إلى جنب مع قوات الاحتلال. لذلك هم لا يشبهوننا، ولا يحملون أيّ قيمة لحياة البشر. لقد تفوّقوا على أساتذتهم بالقتل. لا فرق بين ممارساتهم وممارسات الصهاينة وداعش على الإطلاق.
أعود إلى الحقيقة المرّة، وهي أن بنية النظام الطائفي هي السبب الأساسي في انهيار حلم الضباط الفرنسيين. يسأل المرء اليوم ما هو القاسم المشترك بين مواطن من عكار أو طرابلس ومواطن آخر من كسروان مثلاً؟ البرامج التربوية الكارثية، وخاصة المدارس التابعة للمؤسسات الدينية التي تخرّج طلاباً ثقافتهم متعارضة جذرياً. سؤال آخر، ماذا قدّم النظام الطائفي الذي تجاوز عمره المئةَ عام ونيفاً، لأبناء الأقضية الأربعة؟ حتى عهد قريب لم يكن في عكار أو الجنوب أو البقاع طريق إلا من عهد الاحتلال الفرنسي، وانعدمت المستشفيات.
أما في مسألة السيادة الوطنية، فالجنوب يتلقّى منذ ما قبل قيام دولة إسرائيل الضربات من قبل الصهاينة. ممنوع على الجيش الرد، لأن لا سلاح لديه بأمر من الغرب وبانصياع تام من السلطات المتعاقبة. مياه الجنوب للمستوطنين فقط، ويحظر على لبنان استعمالها. رموا كل مصائبهم على الفلسطينيين وتحالفوا مع الصهاينة للتخلص منهم، واحتلوا بيروت وتولّوا السلطة. وانهارت كل أحلامهم وهرب سيدهم. ثم عاودوا الكرة ورموا كل مصائب البلد على السوريين الذين سبق أن استقبلوهم بالأحضان، وعندما خرجوا أصبحت المقاومة مصدر المصيبة.
لن نعود بالتاريخ كثيراً إلى ما سبق، فضباط الجيش كانت تتم تصفيتهم علناً أو في منازلهم. قاتلوا الجيش الذي كان يقود قسماً منه الجنرال ميشال عون. سبق ذلك المجزرة بحق طوني فرنجية وأبناء «المردة» في إهدن، ثم كانت المجزرة بحق أنصار كميل شمعون من «النمور» في الصفرا، قبل معاودة الهجوم على أنصار أمين الجميل في المتن وهربه إلى فرنسا، ثم اغتيال داني شمعون، وتفجير كنيسة في زحلة لتصفية إيلي حبيقة، قبل أن تتم تصفية أنصاره بالرصاص وبطريقة مبتكرة برميهم أحياء في البحر. هذا بعض نتائج تفرّدهم بالسلطة على قسم من أرض لبنان.
اليوم يخوضون معركة جديدة ضد لبنانيين، نوابهم يصدحون ليلَ نهارَ ويبرّرون للعدو الصهيوني إجرامه. يحنّون إلى أيام منسّق أنشطة العدو في لبنان أوري لوبراني، وحيث اتخذ «سفارة» له في جونيه. وها هم مجدّداً، يسلكون طريقاً يقودهم إلى الانتحار. لكنّ الحقيقة المرّة، هي أن لبنان الذي وُلد من رحم العقل العنصري الفرنسي انتهى.